10‏/07‏/2020

الشروق .. ليس لأحد

الشروق الثاني


(4)



خرجت في العاشرة صباحا من منزل والدي في انطلاق محموم نحو المدينة، بحثا عن شقة استأجرها، في الأول من أيلول، بداية العام الدراسي. دائما ما  يذكرني هذا التاريخ ببداية العام الدراسي، كم أفتقد تلك الأيام الغابرة. دخلت المدينة على غير هدى لا أعرف إلى أين أذهب أو من أسأل، لوهلة شعرت بأنني لأول مرة أدخلها وأنني تائهة فيها كطفل صغير. سرت على غير هدى في الشوارع، تارة أسال المارة وتارة أخرى أسال أصحاب المحال المتناثرة على جنبات الطريق، كلوحة إعلانية ابتدعت على عجل. ثم اهتديت إلى فكرة لا أعلم لمَ لم تخطر على بالي سابقا، سؤال الأطباء والطبيبات في المستشفى الذي سأعمل به قريبا، نعم هذا هو الحل الأمثل والذي كان غائبا عني بسبب تفكيري بأمي، كيف سأتركها وحيده، بعد أن رحل رائد ومن ثم أبي! والان أنا، ومحمد قريبا جدا! كيف سأدعها لوحدتها وحزنها دون معين أو سائل! ربما أستطيع اقناعها بالقدوم والسكن معي في المدينة، بعد رحيل محمد ربما أستطيع. 


ذهبت إلى مستشفى النور لعلاج الأورام السرطانية، وهناك استقبلني الدكتور "وليد" بابتسامة عريضة وترحيب كبير، وتساءل عن سبب حضوري المفاجئ. أخبرته عن عزمي على الانتقال إلى العيش في المدينة، لأكون قريبة من عملي ومن أبحاثي. أثنى على الفكرة كثيرا، وقام بالاتصال بصديق له يملك مكتب تأجير عقارات، وخلال ساعتين فقط عثرت على شقتي الأثيرة. هذه الشقة التي أمضيت فيها أجمل وأقسى سنين عمري، ربما كنت أظن ذلك لحظتها فقط، لأنني لم أعلم أبدا أنني سأعيش سنين أخرى أكثر قسوة وأشد إيلاما، ما لم تره عين وما لم يخطر على قلب بشر. 

رفضت استئجار شقة مفروشة، حيث أنني رغبت أن أؤثثها كما يحلو لي، على ذوقي. غرفة نوم وصالة ومطبخ وحمام وشرفة مطلة، هي كل ما أريد وكل ما أملك ذلك الوقت. دهنت جدرانها باللون المشمشي الفاتح وعلقت صور الغروب في الصاله في إطار مذهب، ولوحة أخرى بإطار خشبي. طلبت تفصيل ساعة خشبية عمودية لا يخرج منها عصفور، ولكنها تقرع جرسها المذهب الكبير كل اثني عشر ساعة. كنت قد رأيت صورتها في مجلة سابقا وأسرتني جدا. كلفتني كثيرا من المال ولكنني حين رأيتها قابعة في زاوية الغرفة، نسيت كل شيء، بسرور بالغ دق الجرس وأيقنت ساعتها أن الوقت أغلى ما نملك فعلا  وسأدفع فيه أكثر لو اضطررت. 


اشتريت سريرا مزدوجا كي يسعني وأوراقي البحثية المتناثرة، اشتريته مستعملا من خشب الزان الذي أحب ملمسه وصلابته. وعلقت فوق رأسي لوحة أهداني إياها والدي، غابات كثيفة وبحيرة في مشهد الغروب. ألوان دافئة تبعث على الحب والراحة التي كنت أبحث عنها طويلا. وأمام السرير وضعت منضدة صغيرة، علقت فوقها مرآة ذات إطار خشبي. ووضعت عليها أدوات التجميل،  قلم الحمره والتخطيط وعلبة ظلال العيون، وقارورة عطر شارفت على الانتهاء، وفرشاة تبدو لوهلة كفرشاة الأسنان من كثرة الاستعمال، ولكنها فرشاة البودرة الوحيدة التي أملك. لم أكن يوما من محبي استخدام المكياج بكثرة. فأحيانا كثيرة كنت أنسى وضع أي شيء على وجهي قبل الخروج للعمل. كطبيبة اهتممت بالنظافة الشخصية والظهور على طبيعتي أكثر، دون محاولة تجميل. وذلك ليس لأنني فائقة الجمال، ولكنني لم أكن أملك رفاهية الوقت ولا المال الكافي لذلك. فكل ما كنت أملكه، كان يذهب في شراء الكتب والأبحاث تحديدا، وهذا ما كان يعينني وقتها. 


الشرفة، عالمي الخاص والحالم، فقد اشتريت لها كرسيا هزازا، وترابيزه قش، أضع عليها فنجان قهوتي الصباحي وجهاز الراديو لأستمع لفيروز قبل الانطلاق إلى العمل. واشتريت سبعه قوارير وزرعت فيها ريحانة، سجادة، قرنفلة، نعنعنا، ميرامية وجورية، وفلة لتجتمع كل هذه الروائح صباحا مع القهوة وفيروز، وأصبح أنا في عالم آخر. حلم أتمنى أن لا استيقظ منه أبدا. وفي العصارى، أجلس وأقرأ حتى ينبئني القمر بأنني لم أعد أرى الكلمات المكتوبة، ولكنني أتوهم، ساعتها فقط أقوم متكاسلة لأندس في فراشي وأنام.


ولانني أعشق الوسائد، فقد ملأت الشقة بها، من غرفه النوم وحتى الصالة، تجدها في الزوايا وفي منتصف الغرفة وأمام السرير وفوقه. وسائد مربعة الشكل مطرزة بالورود والأشجار، في لوحات فنية بخيوط من حرير. أتعثر بها دائما وأقع، لكن ذلك أبدا لم يثنيني عن شراء المزيد منها كلما مررت من السوق القديم.


اشتريت للصاله أربعة مقاعد خشبية، محفورعلى يديها وردة كبيرة وعلى رأسها أيضا. ذات قماش بني اللون ذو تطريز خفيف بخيوط ذهبية على شكل تلال. وفي الوسط تقبع طاولتي المفضلة التي كانت تحمل كل أنواع وأشكال وأحجام الكتب التي أقرأ. طاولة خشبية محفورة الأقدام على شكل زخارف هندسية قديمة. كانت طاولة عمل وقراءة وكانت للضيوف أيضا. كانت كل شيء على شكل طاولة قديمة.

شقة في عالم صغير آمن، مرفأي الصغير، والأخير.  كانت كل ما أملك وكل ما أريده فعلا، لكنها أبدا لم تكن لتحميني ولم تكن بيتي الآمن كما حلمت يوما. لا تستطيع الجدران أن تقي أحدا من الفيضان، من الخراب ومن الدمار، بل تصبح الجدران أحيانا هي القاتلة، مدمرة العوالم السعيدة حين تسقط على رؤوس قاطنيها. لم تستطيع شقتي أن تحميني في ذلك اليوم المشؤوم، وكل الأقفال لم تصنع شيئا أمام رصاصة واحدة، وكل الأبواب كانت مشرعة على الموت والكره والجنون.

هناك تعليق واحد:

م. عبد الغني سلامه يقول...

صور متخيلة مدهشة، ومفارقات مثيرة، وغوص في أعماق النفس.. ضمن رحلة روائية تواصلين سردها بكل جماليات اللغة وإبداعك المتجدد.. سنظل ننتظر المزيد، في شوق لمواكبة تطور الأحداث.

  الروح الغاضبة للتنين