21‏/06‏/2020

الشروق ... ليس لأحد

9/8/2016

(3)

رغم مقتي الشديد لرائحة الأدوية وخاصة المخدّر، إلا أنني أصبحت طبيبة، دكتورة كما ينادونني. دكتورة في علم الأورام، أو كما تسمّيه أمي "دستور من خاطره" أو "اللي ما يتسمّى". تقولها وتبصق عن يسارها مستعيذة من أن يحضر كشيطان مارد. هذا المرض، الذي مجرد ذكر اسمه يثير الرعب في النفوس، كان اختياري. لكنني لم أختر هذا التخصص كما جرت العادة، أي بعد إصابة شخص من أفراد عائلتي به وبالتالي رغبتي في إيحاد علاج وحل لهذا المرض، لا أبدا، اخترته لأنه يحيّرني، يربكني، يثير فيّ الكثير من التساؤلات. أتساءل حول التحوّل الماكر في الخلية لتصبح خلية قاتلة، نفس الخلية السليمة، تصبح مجرمة وتتكاثر دون هوادة. دائما كان ما يأسرني الغريب، الطارئ، المختلف والشاذ، خاصة بعد كونه طبيعيا جدا وعاديا جدا. دائما ما يحيّرني هذا التبدّل في هوية الشيء وهوية الإنسان. فنراه يوما عاملا منظما معطاءا، يقوم بمهامه على الشكل الأمثل، وفي اليوم التالي وربما الدقيقة التالية، يصبح مجرما، مدانا، قاتلا ومعديا، ويكون ظهوره مدويا، بعد أن كان عاديا جدا جدا.

الأورام  خبيثة، ليس في نتائجها فقط، ولكن في تحديها للطبيعة الأم، في تحايلها وقدرتها على الاختباء طويلا تحت أنوفنا، في تراصها وعبثها بالجسد. في البداية، تأكله رويدا رويدا، وعندما يشتد عودها، تستعر نارها وتبدأ عملية الإبادة الشاملة، وحتى عند استئصالها كاملا - كما ندّعي نحن الأطباء - في مرات عديدة، تستطيع العودة وبقوة أكبر، لتنهي ما بدأته.

الوراثة، سوء التغذية، الأطعمة المصنّعة، الدخّان، الألوان والنكهات المضافة، الهرمونات، التلوّث البيئي وغيرها من العوامل ربما تؤدي الى هذا المرض المجنون، ولكن ولغاية الآن لا يفسّر وجود هذا المرض في الأصحاء والرياضيين والمحافظين على نمط حياة جيد والذي يخلو سجل عائلاتهم من هذا المرض.

كما قلت سابقا، لم أصبح طبيبة متخصصة لأعالجه نهائيا، ولكن على الأقل لأفهم، كيف ولماذا ومن أين يأتي! وكيف يتطور ويبدل هويته المزعومة.

عندما بلغت الثامنة والعشرين من العمر، بلغت أوج مجدي في مجال عملي، فقد اختارتني ادارة المستشفى التي أعمل فيها لبعثة الى النرويج، للعمل على استكمال بحثي حول الأورام، بعثة لمدة عام كامل، مع أشهر الأطباء والطبيبات الذين أثنوا على البحث وطالبوا بحضوري شخصيا للاطلاع على آخر ما توصّل إليه العلم في هذا المجال، وللاستفادة من أبحاثهم وتجاربهم السريرية لتطوير عملي وإنجاز بحثي، لعل وعسى.

لم أصدق نفسي حين تم إبلاغي بهذا الأمر من قبل الدكتور البرقاوي، فقد ظننت ساعتها بأنه يسخر منّي، لعلمي بمدى كراهيته لي ولبحثي أكثر. البرقاوي رئيس قسم الأورام في المستشفى، وقد جاوز عقده السادس قليلا، ذو أنف مدبب مرتفع الأرنبة وشعر كثيف حول الأذنين مع غرة بلهاء متطايرة لا ترسو على جبهة، وخاصة حين يغضب. وقد كان دائم السخرية من أسئلتي وتعليقاتي في الجولات الصباحية على المرضى، ويطالبني بالصمت ...

- البرقاوي: كفى يا فيلسوفة عصرك، ألم تملّي من هذه الأسئلة! 

- شروق: لكنني يا دكتور أتساءل لأفكر 
- البرقاوي: ألا يمكنك التفكير بصمت دون إثارة هذه الموجة من الأسئلة المستفزة
- شروق: مستفزة.. لماذا!
- البرقاوي: كيف يغيّر هويّته! كيف يتحوّل لمجرم! تشعرينني بأنك تتدحثي عن رجل لا عن مرض عضال أو ورم خبيث! أليس هذا مستفزا!
- شروق: هل لأنني أشبّهه بالرجال بشكل خاص، أو الإنسان بشكل عام!
البرقاوي: أرأيت! أسئلة .. أسئلة .. كفى، أصمتي.

يرحل تاركا موجة من الأسئلة تغمرني، هل فعلا استفزه لأنني أشبّهه بالرجل أم بالإنسان! وهل فعلا يتضايق من أسئلتي أم تراها تحثّه على التفكير خارج المنطقة الآمنة التي يركن إليها دائما في حواراتنا حول الأمراض، تلك المنطقة التي لا يزال يعيش فيها منذ القرن الماضي! أم تراه يخاف من الأسئلة بشكل عام! 

لا أعلم كيف لطبيب مثله أن يكره الأسئلة ويمقتها، أليس بالأسئلة فقط نصبح بشرا، أطباء وعلماء وحالمين! كيف نعيش بلا أسئلة، أنا لا أبحث عن الإجابات دائما لأنها تغلق الباب، بل عن الأسئلة التي تفتح الأبواب والنوافذ فيتنفّس هذا العقل الذي أحمله ويحملني، أشبعه هواء نقيا ليكمل مشواره معي بحرية مطلقة.

 



هناك 4 تعليقات:

م. عبد الغني سلامه يقول...

رائع، تكملة لما سبق، أسلوب شيق ومحترف.. ننتظر المزيد

خلود بدار يقول...

🙏🙏🙏🙏🌹🌷🌹🌷 شكرا

غير معرف يقول...

رائعة كعادتك وانت فعلا ابنة امك وابوك
🥰🥰🥰🥰🤪😝💓💞💕💋💋💋💋💯
بانتظار المزيد منك للامام
منى

خلود بدار يقول...

شكرا حبيبتي يسعدك 💝🌹🥰🌷🙏😍😘

  الروح الغاضبة للتنين