28‏/06‏/2020

الشروق .. ليس لأحد


9/8/2020


الشروق الثاني


(1)


قرية "الغزلان" تقع على بعد كيلومترين عن حدود المدينة، يقطنها أربعمائة وسبعون نسمة وتمتاز بوفرة المياه حيث يحدّها من الشمال نهر "الهادر" ومن الغرب نبعة "المجنونة" تتفجر وسط هذه القرية الوادعة. تحاذيها قرية "الضبعة" من الجنوب وضيعة "جورة التين" من الشرق ولا يفصل بينها وبين هذه القرى سوى أسماء ملاّك الأرض. 

عند الخروج من المدينة الصاخبة تأخذني الطريق إليها في رحلة جمالية قل نظيرها، أو هكذا كنت أظن قبل وصولي النرويج. لمسافة كيلومتر ونصف تتعرج الطريق كحية رقطاء ممتدة، في شارع ضيق لا يزيد عرضه عن ثلاثة أمتار، إذا احتسبنا الرصيف على جانبه الأيمن. يظلل شجر الحور والصفصاف واللوز والجوز وأنواع أخرى امتداد الطريق، فيحميه من فضلات الطيور وأعين المسافرين في الطائرات. على الجانب الأيسر للطريق يمتد واد غير سحيق ولكنه ذو زرع، فإن توقفت على جانب الطريق وأرسلت البصر جيدا، فبإمكانك رؤية الخس والخيار والبازلاء والفول الأخضر وغيرها من المزروعات التي يبرع فيها مزارعوا هذه القرية الوادعة. 

هي ليست وادعة تماما، فقد مر على قريتي العديد من الجرائم وغيرها من الآفات الاجتماعية التي لا بد أن تصيب أي تجمع سكاني يزيد عدده عن واحد وحيد. فقد قتل طفل في قريتنا لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره بسبب غزال. وسرق من أبي عمر صاحب الدكان الوحيد في القرية مبلغ من المال لغاية الآن لم يعرف قدره، فبالعض قال مئة وآخرون قالوا آلف، وأم علي تقسم أغلظ الأيمان بأنه تجاوز العشرة آلاف من الأوراق الخضراء.

كما قام أحد الشباب ويقال بأنه ابن مؤذن القرية بالاعتداء على "مجد"، الصبية ذات الخمسة عشر ربيعا، وأدى بها الى أن تحبل، ومن ثم تم قتلها على يد أخيها لغسل عار العائلة كما يدّعون. "مجد" كانت "مجنونة" القرية كما كان يحلو للجميع تسميتها إلا والدي، فقد كان يناديها غزالة، ودائما  ما كان يطعمها من يده ما لذ وطاب من الحلوى. أذكر حين سمع بخبر وفاتها، بل قتلها، جن جنونه ودار يصرخ في أبناء القرية ويشتم ويلعن، سار على غير هدي لساعات طويلة والعرق يتفصّد من كل أنحاء جسده، والحرارة تأكله وأيضا الألم. كنت حينها لا أتجاوز التاسعة من عمري، لكنني لأول مرة في حياتي شهدت دموع والدي وجنونه.

أبي، تكاد صورتك تختفي من الذاكرة تماما، أصبحت باهتة وقاتمة، أستعين بكل الروائح والأغاني والكلمات، أستعين بالحديث مع أمي عنك ومع أخوتي. أنبش بأظافري في الصور القديمة، وفي عقلي، لكن الصورة تأبى إلا الرحيل، حتى في الحلم بت تأتيني طيفا أعرف بقلبي أنه طيفك، لكن دون ملامح، دون ألوان، دون صوت أو رائحة تعينني على التذكر، وعلى التمتع بهذه الأطياف والهالات.

أنظر الآن الى صورتك يوم عرسك، شابا يافعا ضحوكا، طويلا، شعر ناعم منساب على الجبهة العريضة، وعينان كعيني الثور، هكذا كانت تصفهم والدتي دائما، وكنت تضحك لها دوما وتعاكسها لتقول: وعناده أيضا.
نعم، كنت عنيدا جدا رغم طيبك الشديدة، رغم كل الحنان الذي يتفجر من مقلتيك وكفيك، كنت عنيدا وصلبا كصخر الصوان بل أكثر.

تتموضع مثل "شكري سرحان"  في الصورة، لا أعلم لماذا؟ ولكن يبدو بأنه كان مثالا يحتذى به آنذاك. يدك أسفل ذقنك، قدمك على كرسي مرتفع، وتتكئ بكوعك على ركبتك المرفوعة. اعتذر يا حبيبي ولكن الصورة فعلا مضحكة، ومؤلمة في آن معا. اضحك لهذا التموضع العجيب لأخذ الصورة، وأبكي لأنني لا أذكر، هل هكذا كان شكلك فعلا يا أبي! هل هذا أنت الذي أعرف! لماذا تبهت صور من نحب هكذا! لماذا ترحل عنا حين نكون بأمس الحاجة لها! لماذا!

26‏/06‏/2020

الشروق .. ليس لأحد


9/8/2016


(5)


أمي سيدة ستينية قصيرة القامة وجميلة، مثل شتلة الجوري كما كان يقول والدي، رائحتها دائما زكية حتى عندما تخرج من المطبخ. وجهها الدائري لم يزل بكامل استدارته رغم السنين والألم. هي امرأة عادية جدا وتقليدية جدا، تؤمن بكل الخرافات التي سمع بها البشر، بداءا من التنانين وانتهاءا بحورية البحر، كما وتصدق كل ما تتناقله وسائل الإعلام دون تمحيص. تعشق الطبخ لأنه الهدية الوحيدة التي تعرف كيف تمنحها جزءا من قلبها لوالدي. فقد كان "يموت في طبخها" كما تقول، ويعشقه أكثر من طبيخ أمه، هكذا كان يصرّح لها عن حبّه الدائم لها. وكانت هي تعشق هذا المديح وتنتظره دوما. وربما هذا أكثر ما تفتقده الآن بعد رحيله، فلم يعد لديها من تصنع له الطعام بحب ليخبرها كم هي طبّاخة رائعة.

عينا أمي تشبه حبّتا اللوز في شكلهما الخارجي ولون قشرنهما الصلبة، وشعرها، آه لا أستطيع الحديث عن شعرها، فهي محجبة منذ الأزل وترفض خلع الحجاب في أي مكان، حتى أنها أحيانا تنساه على رأسها في البيت رغم عدم وجود أحد، وأحيانا أخرى تنام فيه. لذا اعتذر عن وصفه رغم جماله الأخّاذ وذلك احتراما لمشاعرها وتقديرا منّي لها.

وجهها القمري يتزيّن بخال يقع أعلى شفتها من الجهة اليسرى، وقد كان والدي دائما يعود الى البيت ويقبّل الخال قبل أي شيء آخر. وحين يراني متجمّدة في مكاني ومندهشة، كان يقول لي: علينا دائما أن نقبّل الحجر الأسود، فهو حجر من الجنة، وأمك الجنّة. نعم هي جنّتي وجنوني أيضا، فبالرغم من محبتي الصارخة لوالدتي، إلا أنني في أغلب الأحيان كنت أغضب منها وأزعل عليها. فهي تصدّق كل الإجابات الجاهزة، وتؤمن بكل الخرافات التي أحاربها، وتحاول جاهدة أن تجعلني نسخة مكررة عنها كعادة كل أمهاتنا. ربة منزل لها ذوقها الخاص في الطبخ والغسيل وترتيب المنزل، ففي نظرها الرجل هو سيد المنزل وهو الآمر الناهي وهي عليها الإطاعة وحسب. 

كانت تتذمّر باستمرار من دراستي الجامعية والعلم الذي لا ينفع كما كانت تقول، فكانت تتحايل عليّ دوما بمساعدتها في أعباء المنزل حتى لا تراني أحمل كتابا، وأحيانا أخرى تلقي بدفاتري في سلة القمامة ظنّا منها أنني انتهيت منها - كما كانت تتذرّع -. حتى أنها لم تر شهادتي الجامعية ولم تسأل عنها عندما تخرّجت بمعدل امتياز. وكم كانت خيبتي وحزني أشد من أن أحتمل، حينها فقط قرّرت أن أغادر المنزل وأعيش بعيدا عنها لوحدي، نعم عليّ منذ الآن أن أعيش لنفسي ودون تأثيرها السلبي على شخصيتي، سأخرج الى العالم كلّه وأعيش وحيدة واحدة.

حين سمعت أمّي بالقرار، جنّ جنونها، وأخذت تكثّف من اتصالاتها بأخوتي، رائد ومحمد، لمنعي من الانتقال، لكن انشغالاتهما بأمورهم الشخصية كانت أهمّ بكثير من موضوع خروجي من المنزل، فقد كان رائد منشغلا بمشاكلة مع زوجته الأمريكية، وأخي محمد يصارع آلة الرأسمالية في الإمارات، ويسعى ليجعل لنفسه موطئ قدم هناك وعمل ثابت يعتاش منه. كانت مشاكل أخويّ في نظرم أكبر بكثير من قراري السخيف الذي سأعدل عنه لاحقا - كما قالوا لأمي مطمئنين - وهذا ما لم يحدث أبدا.

ساعدني رحيلي المتسرّع في إيجاد عمل في المدينة، بعيدا عن قريتنا التي لم تشبع يوما من الجهل والموت. ففي مطلع العام 2010 قدمت الى حلب الشهباء، مدينة السحر والجمال، مدينة الروائح الطيبة والناس الطيبة، ومن هناك خرجت إليكم بقصتي.

23‏/06‏/2020

الشروق .. ليس لأحد


9/8/2016


(4)


كان الجو باردا جدا حين وصلت الى أوسلو، يبدو أن هذا المعطف ليس ملائما لأجواء بلادهم كما كنت أعتقد، رغم أنني اشتريته خصيصا لهذه الرحلة، لكن على ما يبدو فإنني بحاجة الى شراء معطف آخر من هذه البلاد، معطف يفهم لغة النرويج وحرارة أوسلو تحديدا، فيقيني قرصة البرد وقرصة أنظار المتطفّلين، إن وجدت. فلا أرغب بأن يتم التعرف عليّ من خلال المعطف الذي ألبسه!

سأذهب غدا الى جامعة أوسلو لأتعرف بأحد أشهر الأطباء هناك والذي يشرف على استخدام آخر ما توصل إليه العلم في معالجة مرض السرطان، ألا وهو العلاج المناعي، نعم إنها قفزة مهولة للبشرية وطريقة واعدة لعلاج الأورام وخاصة أورام الجهاز التنفسي كما الرئتين. فالعلاج المناعي رغم قدم الفكرة إلا أنه تطور بشكل كبير في الأعوام الخمسة الأخيرة، وقد تم الاعتراف بقدرات هذا العلاج الفعّال عندما  تم منح جائزة نوبل مناصفة لطبيب أمريكي وآخر ياباني تخصّصا تحديدا في العلاج المناعي.

كم أنا محظوظة بهذه البعثة وكم أنا سعيدة، وخاصة أنني وحدي ودون الدكتور البرقاوي، نعم هنا أستطيع أن أسأل كما أرغب لأنني حضرت فقط لأسأل، ولن يمنعني أحد ولن يسخر منّي أحد، فقد نشأت وتطورت النرويج فقط من خلال التساؤلات، بل وكل أوروبا الحديثة، برزت بعد أن بدأت بالتساؤل وبطرح الأسئلة البسيطة، مثل: لماذا لا يحاسب الله الملوك كما البشر! لماذا يتم إعدام المرأة التي تقرأ وتكتب وتجرّم على أنها مشعوذة وساحرة! لماذا نحن فقراء!

منذ دخلت الطائرة الأجواء الأوروربية، اختلف المشهد كثيرا، حتى الغيم أصبح أكثر بياضا وعشوائية، كالقطن المتناثر في السماء، لا يلزمه إلا النول لإعادة ترتيبه كما يحلو لي. كم أود لو أغرس أناملي فيه، أتحسسه، أنام فوقه ربما قليلا وأحلم.

التقطت عددا كبيرا من الصور للغيم الهائم على وجهه، ولكن الصور لم تظهر أبدا ما كنت أراه، فهنالك طفلة تقفز بحبل طويل، وهنالك تمثال لإمرأة تنظر فوق كتفها وتحمل وردة، وهنالك رجل يحمل قوسا مكسورا، وطائر خرافي بقدمي حصان ينظر نحوي بشرود! كثيرة هي الصور ولكنها أبدا لم تظهر في عين الكاميرا، خسارة، كم وددت لو أستطيع إمساك هذه اللحظة، لكن كما يقولون، ليس بعد العين كاميرا أخرى تجاريها.

حين اقتربنا من أجواء النرويج، بدأ اللون الأخضر المموّه بالأبيض يطغى على كل شيء. كل هذه المساحات الممتدة أسرتني وقلبت كياني. هذا الأخضر اليانع والأبيض الساطع انعكس على صفيحة الماء لوحة خيالية، أثارت في نفسي الغيرة الشديدة، فقد كنت أظن - كما كانت تقول والدتي "ليس هنالك أجمل من بلادنا، فهي أكثر خضارا من السبانخ"، نعم أكثر خضارا من السبانخ ولكنها أقل خضرة وبياضا من النرويج، هي جرداء جدا يا أمي هذه البلاد، حتى من الأبيض.


في غمرة انشغالي بالخيالات والهالات والألوان وذكريات المسلّمات، نسيت تناول ما قدّم لي على الطائرة، بل ونسيت كل ما حولي من ركّاب وطاقم وحتى الطائرة، فقد كنت أحلّق في عوالم الدهشة ومن مسافة قريبة من الملائكة ومن كلام الله، هكذا تصف أمي الرحلة الى السماء، ولا أجد كلمات أخرى حاليا لأنسبها الى نفسي لوصف هذه اللحظات التي لا توصف من التجلّي. فكلما اقتربت من حدود السماء، كلما اقتربت من نفسي وروحي المحلقة داخل جدران جسدي.


21‏/06‏/2020

الشروق ... ليس لأحد

9/8/2016

(3)

رغم مقتي الشديد لرائحة الأدوية وخاصة المخدّر، إلا أنني أصبحت طبيبة، دكتورة كما ينادونني. دكتورة في علم الأورام، أو كما تسمّيه أمي "دستور من خاطره" أو "اللي ما يتسمّى". تقولها وتبصق عن يسارها مستعيذة من أن يحضر كشيطان مارد. هذا المرض، الذي مجرد ذكر اسمه يثير الرعب في النفوس، كان اختياري. لكنني لم أختر هذا التخصص كما جرت العادة، أي بعد إصابة شخص من أفراد عائلتي به وبالتالي رغبتي في إيحاد علاج وحل لهذا المرض، لا أبدا، اخترته لأنه يحيّرني، يربكني، يثير فيّ الكثير من التساؤلات. أتساءل حول التحوّل الماكر في الخلية لتصبح خلية قاتلة، نفس الخلية السليمة، تصبح مجرمة وتتكاثر دون هوادة. دائما كان ما يأسرني الغريب، الطارئ، المختلف والشاذ، خاصة بعد كونه طبيعيا جدا وعاديا جدا. دائما ما يحيّرني هذا التبدّل في هوية الشيء وهوية الإنسان. فنراه يوما عاملا منظما معطاءا، يقوم بمهامه على الشكل الأمثل، وفي اليوم التالي وربما الدقيقة التالية، يصبح مجرما، مدانا، قاتلا ومعديا، ويكون ظهوره مدويا، بعد أن كان عاديا جدا جدا.

الأورام  خبيثة، ليس في نتائجها فقط، ولكن في تحديها للطبيعة الأم، في تحايلها وقدرتها على الاختباء طويلا تحت أنوفنا، في تراصها وعبثها بالجسد. في البداية، تأكله رويدا رويدا، وعندما يشتد عودها، تستعر نارها وتبدأ عملية الإبادة الشاملة، وحتى عند استئصالها كاملا - كما ندّعي نحن الأطباء - في مرات عديدة، تستطيع العودة وبقوة أكبر، لتنهي ما بدأته.

الوراثة، سوء التغذية، الأطعمة المصنّعة، الدخّان، الألوان والنكهات المضافة، الهرمونات، التلوّث البيئي وغيرها من العوامل ربما تؤدي الى هذا المرض المجنون، ولكن ولغاية الآن لا يفسّر وجود هذا المرض في الأصحاء والرياضيين والمحافظين على نمط حياة جيد والذي يخلو سجل عائلاتهم من هذا المرض.

كما قلت سابقا، لم أصبح طبيبة متخصصة لأعالجه نهائيا، ولكن على الأقل لأفهم، كيف ولماذا ومن أين يأتي! وكيف يتطور ويبدل هويته المزعومة.

عندما بلغت الثامنة والعشرين من العمر، بلغت أوج مجدي في مجال عملي، فقد اختارتني ادارة المستشفى التي أعمل فيها لبعثة الى النرويج، للعمل على استكمال بحثي حول الأورام، بعثة لمدة عام كامل، مع أشهر الأطباء والطبيبات الذين أثنوا على البحث وطالبوا بحضوري شخصيا للاطلاع على آخر ما توصّل إليه العلم في هذا المجال، وللاستفادة من أبحاثهم وتجاربهم السريرية لتطوير عملي وإنجاز بحثي، لعل وعسى.

لم أصدق نفسي حين تم إبلاغي بهذا الأمر من قبل الدكتور البرقاوي، فقد ظننت ساعتها بأنه يسخر منّي، لعلمي بمدى كراهيته لي ولبحثي أكثر. البرقاوي رئيس قسم الأورام في المستشفى، وقد جاوز عقده السادس قليلا، ذو أنف مدبب مرتفع الأرنبة وشعر كثيف حول الأذنين مع غرة بلهاء متطايرة لا ترسو على جبهة، وخاصة حين يغضب. وقد كان دائم السخرية من أسئلتي وتعليقاتي في الجولات الصباحية على المرضى، ويطالبني بالصمت ...

- البرقاوي: كفى يا فيلسوفة عصرك، ألم تملّي من هذه الأسئلة! 

- شروق: لكنني يا دكتور أتساءل لأفكر 
- البرقاوي: ألا يمكنك التفكير بصمت دون إثارة هذه الموجة من الأسئلة المستفزة
- شروق: مستفزة.. لماذا!
- البرقاوي: كيف يغيّر هويّته! كيف يتحوّل لمجرم! تشعرينني بأنك تتدحثي عن رجل لا عن مرض عضال أو ورم خبيث! أليس هذا مستفزا!
- شروق: هل لأنني أشبّهه بالرجال بشكل خاص، أو الإنسان بشكل عام!
البرقاوي: أرأيت! أسئلة .. أسئلة .. كفى، أصمتي.

يرحل تاركا موجة من الأسئلة تغمرني، هل فعلا استفزه لأنني أشبّهه بالرجل أم بالإنسان! وهل فعلا يتضايق من أسئلتي أم تراها تحثّه على التفكير خارج المنطقة الآمنة التي يركن إليها دائما في حواراتنا حول الأمراض، تلك المنطقة التي لا يزال يعيش فيها منذ القرن الماضي! أم تراه يخاف من الأسئلة بشكل عام! 

لا أعلم كيف لطبيب مثله أن يكره الأسئلة ويمقتها، أليس بالأسئلة فقط نصبح بشرا، أطباء وعلماء وحالمين! كيف نعيش بلا أسئلة، أنا لا أبحث عن الإجابات دائما لأنها تغلق الباب، بل عن الأسئلة التي تفتح الأبواب والنوافذ فيتنفّس هذا العقل الذي أحمله ويحملني، أشبعه هواء نقيا ليكمل مشواره معي بحرية مطلقة.

 



19‏/06‏/2020

الشروق .. ليس لأحد

الرواية غير المنتهية


الفصل الأول

الشروق الأول

8/8/2016



(١)

تلك الخيالات أراها الآن مجسدة أمام ناظري، كنت ألمحها سابقا فقط بطرف عيني راحلة أو قادمة، تسير بسرعة شديدة فتثير حيرتي، هل رأيت فعلا شيئا ما! أم أن عقلي يلعب لعبته البغيضة معي كلما هممت بأن أحلم! لكن منذ ذلك اليوم المشؤوم بدأت أراها ببطء شديد، دائما قادمة، من زاوية العين تخرج، تسير متمهلة حتى تصل كتفي، تجلس هناك، لا أعلم ماذا يعجبها في الجلوس على كتفي، لكنها تبقى هناك صامتة ثقيلة ولا ترحل، إلا عندما أبدأ بهزّ رأسي يمنة ويسرة، فأنفضها عن كتفي، وأتحللّ من خوفي الرابض على قدمي فيشلّهما.
ذلك اليوم، لم يكن عاديا أبدا، فقد شعرت بأن الشيطان يسير حرا في الشوارع، مصاحبا لزمرة من الجن والعفاريت، يبعث الجنون ويزرع الخوف بين الناس. لقد لمحته، بل رأيته فعلا، كان في السوق يشتري بعض الأنفس، ويبيع الأحلام، وكم أدهشني عدد الباعة وعدد المشترين.
كان الأفق مغمورا بالشفق، كان أقرب لونا من القلب منه الى الدم الذي يضخ منه أو إليه. والنجوم كانت تتراص على خجل حول القمر الذي أطلّ برأسه على استحياء شديد، فلم ير منه إلا جبهته.أظن أن السماء كانت قد تآمرت مع الشيطان، لتوحي لنا بهول ما يحدث. ولتنذرنا بأن ما خفي أعظم. رسالة مشبوهة بثّتها بين الخلق، فدبّ الرعب قبل الأوان. فترك كل خليل خلّه ورحل، وهربت الأم ببناتها تاركة الأولاد لمصيرهم. وإمام المسجد أقفل على نفسه باب الصومعة وبدأ يصلّي لإله يظنّ بأنه يعرفه جيدا، وأسقط في يد الرئيس، فبات ينظر من طرف الشبّاك كي يتأكد من خلو الشارع من المارة ومن الشياطين التي ظهرت. أما رجالات الأمن، فحدّث ولا حرج، لم نرهم سوى لمحة ساعة المغيب، يبدّلون ثيابهم الرسمية بأخرى عادية تقيهم شر المعرفة والمواجهة.
بدأ الليل يتسلّل في الحارات والأودية، فأظلمت الطرقات وتسارعت الخطوات وعلا الشهيق وتصادمت ضربات القلوب في كل زاوية وركن.


(٢)


لا يكفّ هذا النمل عن إزعاجي، ألمحه يسير بخطى ثابتة نحو المغسلة، بجانب حوض النعنع، خلف الإطار، في زاوية المنزل، وأحيانا يتجرأ فيدخل بين أصابع قدمي. يصيبني بتنميل لا أتخلص منه إلا بالقفز كالمجنونة وتحريك رأسي يمنة ويسرة. عندها فقط، يتوقف هذا الجنون، لكن النمل وحده لم يكن المشكلة الوحيدة التي أعاني منها، فهنالك النحل أيضا، يلحقني بمطاردة ساخنة كلما هممت بقطف وردة، ولا يستريح حتى يدخل أذني، وهنالك يبدأ الطنين، ويبدأ جنون من نوع آخر، لا أتخلص منه إلا بوضع ماء دافئ وملح فيهما كما علّمتني أمي، عندها فقط أستطيع أن أسمع صوتي نقيّا دون خدش.
تلك الحشرات وغيرها مما تعودت نوعا ما على رؤيتها دوما، لم أرها ذلك اليوم، ولم تدخل جسدي كعادتها المحمومة، تركتني أنعم بسلام، لربما ظنّت بأنني أحتاج أن أكون وحيدة في ذلك اليوم، دون إزعاج من نوع آخر، ودون ملهاة لا أحتاجها فعلا. آه لو تعلم، بأنني تمنيّتها في هذا اليوم تحديدا، آه لو تعلم!
ملهاة أخرى تمنيّتها ذلك اليوم، فنجان القهوة الصباحي وفيروز، نعم هذه العادة التي لازمتني طوال عشرين عاما، قاطعتها، بل خلعتها ذلك اليوم، لا أعلم لماذا! لكنني قررت فجأة بأن عليّ أن أغيّر من عاداتي، وأولى عاداتي السيئة - كما ظننت - فنجان القهوة. قالوا بأنه يضر بالصحة، وعليّ أن أكون صحيّة أكثر في اختياراتي. أن أبدأ بالعصير مثلا، أو الإفطار، وهذا ما كان! وليته لم يكن. آسفة سيدة فيروز فما كان يجب أن أصدق بأن هنالك ما هو أكثر صحة من سماع صوتك مع فنجان القهوة صباحا. سامحيني! فقد أسأت لنفسي ذلك اليوم، بل دمّرتها، آسفة،


  الروح الغاضبة للتنين