04‏/08‏/2020

الشروق .. ليس لأحد

الشروق الثاني


(5)


الليلة شديدة البرودة تكاد أن تشلّ حركتي ولساني. هكذا يكون برد الصحراء كما سمعت، برد ينهال عليك بالضرب حتى تتكسّر عظامك وتسمع صوت طقطقتها كما الخشب في النار. النار! هل يمكن أن تشعل نارا أو مدفأة ربما؟ همست في أذن عبد الرحمن، لكنه لم يجب ونظرة الشرود تعلو وجه الذي يغمره حمره لم أعرف مصدرها، هل هي حمرة الخجل كما يقولون، وهل يعقل أن يخجل مني! لا هنالك أمر آخر، فأذناه أيضا تشتعل نارا. 

- عبد الرحمن .. عبد الرحمن، هل أنت بخير! قام عبد الرحمن من مقعده متكاسلا متثاقلا ليسقط بعد برهة على الأرض دون حراك.
- عبد الرحمن .. عبد الرحمن صرخت حتى اختفى صوتي مع الريح والرعد.

- فهد .. فهد حبيبي .. فهد خلّيني أشوف إيدك حبيبي، بتوجعك! بسيطة حبيبي، ما في شي، بسيطة تعال معي، تعال معي. تختفي صورة أمي، يأكلها الفراغ وأعود مذعورا أنظر في وجه شروق الذي حلّ مكان وجهها! كيف جئت الى هنا؟ ولما تنادينني باسم عبد الرحمن! اسمي فهد يا شروق! اسمي فهد! بدأت أصرخ بإسمي حتى ابتلعني الظلام. 

كيف للحياه أن تتبدل بهذه السرعة! وكيف تختلف الأسماء والوجوه! نخرج من البيت باسم ما ونعود له بإسم آخر! نخرج والضحكات والفرح يملؤ قلوبنا، لنعود إليه مثقلين بالحزن والألم والغضب! نخرج من البيت حين نكبر وحين نكبر نتمنى العوده إليه صغارا آمنين نلعب ونصحك دون سبب، فقط لأننا نريد ذلك. 

لماذا تغتال أحلامنا على أعتاب المراهقة! وحين نفتح أبواب القلب، تأتينا الطعنات من كل جهة! حين نصرخ في وجه الدنيا أن لنا الحياة، تضحك وتسخر منا، ثم تلطمنا على وجهنا رغبة منها في أن نصحو، نستيقظ فلا مكان للأحلام في عالمنا.
نشرع باب البيت لنستقبل النهار في مقتبل عمرنا، فيأت الليل مبكرا ويهبط في دواخلنا، يعشعش هناك في زاوية الروح، فلا نجد له بعد ذلك اليوم مخرجا أبدا.

لماذا يصرخ باسم فهد؟ من فهد هذا؟ هل هو أخاه! أو ربما صديقه المقرب؟ 
- عبد الرحمن .. عبد الرحمن، من فهد هذا الذي كنت تهذي باسمه؟ من هو أخبرني؟ ثلاثة أيام بلياليها وأنا أبدل الخرق وأمسح العرق عن وجه عبد الرحمن وأبكي بصمت. ثلاثة أيام، لم أعرف خلالها  طعم النوم ولا الأكل، لقد نسيت كل شيء تقريبا، نسيت نفسي وماذا أفعل هنا! كان بإمكاني الهرب، لكنني لم أهرب لماذا! لماذا! هل وقعت أسيرة ما يقولون عنه في الطب النفسي "متلازمة ستوكهولم"! هل بدأت فعلا ارتبط بخاطفي وأتعاطف معه! ما هذا! أنا طبيبة وأفهم جيدا هذه العلاقات، فكيف أقع ضحيتها؟ النفس البشرية بالغة التعقيد، والعقل البشري رغم كل تطوره ما زالت تحكمه العاطفة! لا يمكن .. لا يمكن! لكنني قبل كل هذا وذاك إنسانة، ربما بسبب ذلك سأقع ضحية العديد من الإسقاطات والمتلازمات دون إدراك مني حتى لو كنت طبيبة ولو أنني مدركة تماما بأن هذا مجرد خلل نفسي مؤقت! 

- شروق .. شروق، اخترق صوت عبد الرحمن مخيلّتي بحدة حتى مزّق أفكاري أشلاء وبعثرها
- ماذا تريد!
- أريد ماء .. أريد ماء أنا عطشان جدا
- حسنا

- كيف كنت تعيشين لوحدك طوال تلك الفترة، أين أهلك؟ وكيف سمحوا لك بذلك؟ لا أصدق إننا وصلنا الى هذا المستوى من الرذيلة والاستخفاف، يجب قتل والدك وإخوانك لسماحهم لك بهذا. 
- لكن والدي متوفي وأخي متزوج في أمريكا والاخر يعمل في الخليج 
- هذه أعذار واهية، كان لزاما عليك أن تعيشي مع أحدهم أينما حل.
- حتى أصبح خادمة لزوجته وأولاده! 
- خادمة أفضل من عاهرة.
- وما توصيفك لكليهما! 
- ماذا تقصدين؟ ماذا تعنين بهذا شروق؟ 
- الخادمة تبيع شغل يديها مقابل المال والعاهرة تبيع شغل جسدها مقابل المال أيضا، فما الفرق؟ 
- ماذا تقولين أنت فعلا عاهرة ويجب إعدامك. 
- أنا اتساءل فقط، أين الاختلاف؟ أنت تبيع شيئا ما يخصك وآخر يشتريه، فأين تكمن مصيبتك أنت؟
- تبيع شرفها وشرف عائلتها! تبيع ما ليس لها، جسدها ليس ملكها، 
- ملك من إذا يا عبد الرحمن؟
- ملك ذويها، ملك زوجها 
- إذا كان ملكا فبالإمكان بيعه أليس كذلك؟ 
- ماذا؟؟
- أنت قلت بأنه ملك ذويها وزوجها، أي ملك الرجال، أليس هذا ما قصدته، لم هو ملك الرجال؟
- أنت فعلا تحاولين إثارتي لقتلك
-  لا أبدا، أنا أتساءل فعلا، هل جسد المرأة ملك الرجال؟ 
- نعم 
- وهذه الملكية تنتقل بالوراثة أو من خلال البيع والشراء؟
- بالوراثة، وأيضا بالبيع والشراء 
- حسنا، عندما تشتري المرأة فإن هذا حلال؟
-  طبعا 
- وهل جسدها يصبح ملكك؟
- طبعا 
- إذا المشكلة ليست في الجسد! ولكن من يحق له أن يبيعه ليصبح حلالا 
- اعتقد ذلك 
- إذا، إذا باعت المرأة جسدها هذا عهر، أما إذا باعه أباها أو أخاها أو زوجها فهذا حلال! 
- لا ليس كذلك، أنا لم أقل هذا كفاك .. كفاك استفزازا لرجولتي شروق 
- رجولتك! وهل أصبت رجولتك في شيء! أنا أتحدث عن جسد المرأة لا جسدك عبد الرحمن! 
- صون جسد المرأة له كل العلاقه برجولتي.
- وهل رجولتك تقول لك أن تأخذني جارية! هذا حلال! 
- طبعا، فأنا اشتريتك من الأمير فأنت لي.
- وكيف تكون رجولتك سليمة وأنت لم تصني! 
- كيف ذلك! فأنا اشتريتك لأصونك
- و هل يباع جسد المرأة الحرة والشريفة في نظرك يا عبد الرحمن!
- انت لست حرة بل جارية 
- وكيف أصبحت جارية وقد ولدتني أمي حرة!
- لأنك خارجة عن الملة يا شروق 
- أي ملة يا عبد الرحمن؟ ملة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم! ملة إبراهيم عليه السلام! أي ملة تقصد! ومن قال لك أنني خارجة عن الملة؟
- أفعالك وأقوالك
- وهل كنت تعرف أفعالي وأقوالي قبل شرائي؟ 
- نحن نعرف كل شيء عن الجميع هنا، لذا قمنا بالهجوم عليكن  وسبيكن 
- وماذا تعرف عني وعن أفعالي وأقوالي؟
- كل شيء 
- أذكر شيئا واحدا فقط يا عبد الرحمن 
- تعيشين لوحدك وهذا سبب كاف لسبيك 
- لأنني كنت أعيش وحيدة 
-  نعم وحيدة


ليست هناك تعليقات:

  الروح الغاضبة للتنين