03‏/07‏/2020

الشروق .. ليس لأحد

الشروق الثاني

(2)

عند المغيب كان عبد الرحمن يحضر دائما متجهم الوجه حانقا، أظن بأنه يلعن التاريخ في سره وربما أشياء أخرى أو أشخاصا بذاتهم، ربما يلعن الأمير أو أحد رفقاء الجهاد!  يجلس ممتعضا يعضّ على شفته العليا، تلك الشفة التي يغطيها شارب أسود كثيف يوحي بوحشية ذلك الفم وهذه الذقن غير المهذبة توحي بمهزلة الحياة وعبثيتها.


كلما تمعنت في وجه عبد الرحمن أرى شخصا آخر، لا أعرف من هو، لكنه يتراءى لي خيالا في بؤبؤ العين، يغمزني، يمازحني ، ويبتسم بعفوية طفولية تأسر فؤادي، لكن حين أعود وأنظر إلى يديه، أرى عبد الرحمن الحقيقي؛ القاتل، المغتصب، السارق، والمجرم. هل هي رغباتي تنعكس على صورة ما أراه، أم هي أفعاله ونزواته والتي أراها تختلف أحيانا في مقلتيه الناعسه!


كم أعشق هذه العيون يا عبد الرحمن، آه لو تعرف، كم أعشق عينيك! يقبع فيهما خضار النرويج والغزلان، غابات من أشجار الصفصاف  والسرو تنمو في عينيك. وتلك النجوم التي تتلألأ ليليّا فيهما، تذيبني حد الجنون. أعشق الفرح في عينيك والذي نادرا جدا ما أراه، وكم أرغب لو يدوم حتى ينام القمر أو أنام أنا على الأقل.


عبد الرحمن: هل تؤمنين بالقدر يا شروق؟

بانتباه شديد تلقّفت السؤال، وأعدته بمكر: أيه قدر تقصد؟

عبد الرحمن: أي قدر يعني! القدر!


وحتى استفزّه أكثر، أجبت متصنعة عدم الفهم: تقصد الله بحد ذاته! أم قدرية أقواله وأفعاله! أو ربما تقصد المحتوم، وأن كل وجودنا مسجّل مسبقا في لوح محفوظ وبالتالي نحن نسير على خطى هذا القدر المكتوب لنا منذ الأزل!

عبد الرحمن: دائما تفلسفين الحديث كما يحلو لك حتى لا تجيبي صراحة، حتى لا تقولي لا بطريقة مهذبة.


بابتسامة خفيفة حتى لا أثير غضبه: هي محاولات لقولها لكن بطرق ملتوية وغير مهذبة أبدا.

عبد الرحمن: تعترفين إذا! أنت لا تؤمنين بالقدر؟

أجبته بصرامة: حدد عن أي قدر أنت تتحدث، وعندها سأجيبك؟

عبد الرحمن: القدر الذي يقول بأنك ستنامين وأنت تبكين من شدة الألم.


كان الألم مبرّحا لدرجة أنني لم أنم حتى خرج عبد الرحمن صباحا إلى عمله، أقصد إلى جهاده.


ثلاثة أبواب حديدية يزخر بها  سور حديقة المنزل، هذا السور الذي يرتفع ثلاثة أمتار في مواجهة السماء وكل العيون المحيطة  به. هذه الأبواب الصدئة تحجب الهواء والأفق، ولا يمتاز لونها عن لون الماء الآسن إلاّ بلون الصدأ الذهبي الذي يلمع تحت أشعة الشمس، فيضفي القليل من البهجة على هذا المعتقل.


الحديقة الخارجية ليست حديقة فعلا، لكنها جزء من الصحراء الكبرى اقتطعت وحملت ووضعت ها هنا لتوحي لك بضراوة العيش وقسوة المنبت. لا شيء أخضر ينمو هنا، إلا عيني عبد الرحمن.


حين أكون وحيدة، أتجوّل في أنحاء المنزل الكبير، فأدخل الصالة التي لا تتميّز عن الصالون إلاّ بصورة آية الكرسي مذهبة ومعلقه على صدر الحائط كنيشان. أما المفارش الأرضية هي ذاتها بلون التراب أينما حللت. يمتلئ البيت بالمفارش الترابية اللون والطعم والرائحة، حتى غرفة النوم، لا سرير فيها ولا منضدة، فقط خزانة متهالكه وفرشة أكلت من لحمي وجلدي ما أكلت.


رغد العيش للآخره كما يقول لي عبد الرحمن، أما الدنيا فهي متاع الغرور، وعلينا أن نعيش متقشفين كما كان يعيش أسلافنا، حتى نشعر بهم ولنشعر أكثر بقربنا من الله. لكنني دوما ما كنت أسأله، كيف أن الفقر والزهد يقربنا من الله! ألا يجعلنا نشعر باليأس والقنوط والخروج من رحمته! ألم يقل الله بأنه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده! ويقول "إن شكرتم لأزيدنكم"! فهل إن شكرناه على فقرنا، سيزيدنا فقرا!


كل حوار مع عبد الرحمن مهما صغر شأنه، كان يؤدي بي الى النوم منتفخة الوجه ومتورمة العينين، صارخة من الألم. ولكنني بت أعلم جيدا أنه حين يهمّ بضربي، ساعتها فقط أكون قد انتصرت عليه، نعم ربحت معركة الكلام وخسرت معركة الجسد.

ليست هناك تعليقات:

  الروح الغاضبة للتنين