04‏/07‏/2020

الشروق .. ليس لأحد

الشروق الثاني


(3)


رائد أخي الاكبر، كبير العائلة كما يحلو لأمي مناداته، يكبرني بأربع سنوات عجاف، كان خلالها الآمر الناهي وسيد البيت الصغير، مدلل أمّي ورفيق درب والدي، أربع سنوات من العيش الرغيد حتى جئت أنا، مصيبته الكبرى كما كان يدعوني. فمنذ لحظة ولادتي خطفت أنظار أبي وقلبه، سرقته من زوجته وابنه البكر. لم أقصد ذلك أبدا، ولكن أحيانا لا يهم ما هو قصدك المهم النتيجة. ورغم قدوم محمد بعد ذلك بعامين، إلا أنه لم يحظ إلاّ بالقليل من كلا الطرفين. صحيح أنه آخر العنقود، لكنه جاء كغلطة غير مقصودة، هكذا صارح والدي محمد في ليلة تشرينية حين سأله عن سبب جفائه.

يزيد عن المتر وثمانين سم قليلا، ممتلئ الجسد وذو عضلات لافتة للنظر. يملك أنامل والدي العريضة وعيون أمي. حنطي البشرة، وذا وجه شبه دائري لم يكتمل تماما، وذقن مدببة صغيرة توحي لك بمدى دهائه.


منذ ريعان صباه، اكتسب رائد ثقة بالنفس وصلت حد الغرور، ساهم في ذلك دعم أمي وانحيازها الدائم لخياراته العبقرية. فقد كان متّقد الذكاء ولامعا في مسيرته التعليمية، اكتسب العديد من الأصدقاء والمحبّين، وحتى أحيانا المريدين. كان يبرع في مخاطبة الفتيات تحديدا، وخاصة حين يفرد عضلاته ويستعرضها من خلف أزرار قميصه المفتوح. اكتسب شعبية كبيرة في قريتنا، بل والقرى المجاورة، فقد كان رياضيا أيضا، ويمثل القرية في المسابقات التابعة لوزارة التربية والتعليم دوما، وقد أحرز عددا من الميداليات الذهبية والفضية في كرة السلة والطائرة.


فتيات القرية كنّ جميعا يتنازعن حوله وعليه، فقد كان مرغوبا بشدة، وللأسف استغلّ رائد هذه المشاعر النبيلة لمعظم الفتيات، فلم تسلم منه إلاّ من رحم ربّي. فكسر قلوبا وحطّمها، واستغلّ سمعتنا الطيبة في تحطيم سمعة العديد منهن، حتى أقدمت "حياه" على محاولة الانتحار بسببه، فقام ذووها بإدخالها مصحة نفسية، لم تخرج منها للآن.


لامه والدي بشدة على هذه الفعلة الشنيعة، ولكن لا حياة لمن تنادي، ولأوّل مرة، يرفع والدي يده على أحد أبنائه وكان رائد، فكانت صفعة مدوية لكل العائلة وليس لرائد وحده، حتى أمي تلقّت الصفعة بصمت قاتل، وهذه الصفعة كانت كفيلة ليرحل أخي الى بلاد الغربة. كان لا يتجاوز العشرين عاما، وكان يدرس للسنه الثانيه في الجامعه مهندس مدني، رحل فجأه ودون وداع أحد حتى أمي . ترك لنا رسالة مقتضبة على السرير، يعتذر فيها عن سرقة المال من خزانة أمي وأخذ ذهبها أيضا ليستعين بهم على شراء تذكرة لأرض الأحلام "أمريكا". كان رحيله فاجعة، فحينها كبرت أمي عشر سنين دفعة واحدة، وسقط أبي صريع المرض الذي لم يعرف سببه أو نوعه.


أما أنا فكنت أمرّ بمرحلة حرجة بسبب الثانوية وفترة المراهقة، وضلوعي في الجريمة التي حدثت، فقد كنت أنا من أبلغ والدي عن موضوع "حياه"، نعم أنا السبب في كل ما حدث في هذا البيت الصغير، لأنني لم احتمل فعلة أخي ولم أطق صبرا، فركضت مسرعة إلى والدي أسأله بجنون وعصبية: ماذا لو كنت أنا "حياة"؟ ماذا لو فعل بي أحدهم مثلما فعل رائد بحياة؟ ماذا ستفعل حينها يا أبي !كانت هذه الأسئلة كفيلة بإشعال النار في منزلنا الصغير وفي هروب أخي، وحزن أمي الأزلي، ولاحقا في موت أبي.


رغم ذلك لم تكف عزيمتي، ولم أتوقف من يومها عن طرح الأسئلة الأكثر استفزازا، وخاصة في المواضيع التي تمس قلبي وعقلي. كان هذا أسلوبي في التحرر من القوالب الجاهزة والإجابات المريحة. خرجت من المنطقة الآمنة ذلك اليوم ولم أرجع إليها أبدا.


حتى عندما أسرني عبد الرحمن وتكالب على، لم أتراجع، بل على العكس تماما، زادت حدة الأسئلة وتنوعت، وأصبحت أكثر استفزازا وجنونا، حتى أنني في مرات كثيرة لم أصدق ما تسمعه أذني منّي، لكن على ما يبدو أن قراءاتي على مدار عشرين عاما قد أتت أكلها جيدا. 


ليست هناك تعليقات:

  الروح الغاضبة للتنين