26‏/06‏/2020

الشروق .. ليس لأحد


9/8/2016


(5)


أمي سيدة ستينية قصيرة القامة وجميلة، مثل شتلة الجوري كما كان يقول والدي، رائحتها دائما زكية حتى عندما تخرج من المطبخ. وجهها الدائري لم يزل بكامل استدارته رغم السنين والألم. هي امرأة عادية جدا وتقليدية جدا، تؤمن بكل الخرافات التي سمع بها البشر، بداءا من التنانين وانتهاءا بحورية البحر، كما وتصدق كل ما تتناقله وسائل الإعلام دون تمحيص. تعشق الطبخ لأنه الهدية الوحيدة التي تعرف كيف تمنحها جزءا من قلبها لوالدي. فقد كان "يموت في طبخها" كما تقول، ويعشقه أكثر من طبيخ أمه، هكذا كان يصرّح لها عن حبّه الدائم لها. وكانت هي تعشق هذا المديح وتنتظره دوما. وربما هذا أكثر ما تفتقده الآن بعد رحيله، فلم يعد لديها من تصنع له الطعام بحب ليخبرها كم هي طبّاخة رائعة.

عينا أمي تشبه حبّتا اللوز في شكلهما الخارجي ولون قشرنهما الصلبة، وشعرها، آه لا أستطيع الحديث عن شعرها، فهي محجبة منذ الأزل وترفض خلع الحجاب في أي مكان، حتى أنها أحيانا تنساه على رأسها في البيت رغم عدم وجود أحد، وأحيانا أخرى تنام فيه. لذا اعتذر عن وصفه رغم جماله الأخّاذ وذلك احتراما لمشاعرها وتقديرا منّي لها.

وجهها القمري يتزيّن بخال يقع أعلى شفتها من الجهة اليسرى، وقد كان والدي دائما يعود الى البيت ويقبّل الخال قبل أي شيء آخر. وحين يراني متجمّدة في مكاني ومندهشة، كان يقول لي: علينا دائما أن نقبّل الحجر الأسود، فهو حجر من الجنة، وأمك الجنّة. نعم هي جنّتي وجنوني أيضا، فبالرغم من محبتي الصارخة لوالدتي، إلا أنني في أغلب الأحيان كنت أغضب منها وأزعل عليها. فهي تصدّق كل الإجابات الجاهزة، وتؤمن بكل الخرافات التي أحاربها، وتحاول جاهدة أن تجعلني نسخة مكررة عنها كعادة كل أمهاتنا. ربة منزل لها ذوقها الخاص في الطبخ والغسيل وترتيب المنزل، ففي نظرها الرجل هو سيد المنزل وهو الآمر الناهي وهي عليها الإطاعة وحسب. 

كانت تتذمّر باستمرار من دراستي الجامعية والعلم الذي لا ينفع كما كانت تقول، فكانت تتحايل عليّ دوما بمساعدتها في أعباء المنزل حتى لا تراني أحمل كتابا، وأحيانا أخرى تلقي بدفاتري في سلة القمامة ظنّا منها أنني انتهيت منها - كما كانت تتذرّع -. حتى أنها لم تر شهادتي الجامعية ولم تسأل عنها عندما تخرّجت بمعدل امتياز. وكم كانت خيبتي وحزني أشد من أن أحتمل، حينها فقط قرّرت أن أغادر المنزل وأعيش بعيدا عنها لوحدي، نعم عليّ منذ الآن أن أعيش لنفسي ودون تأثيرها السلبي على شخصيتي، سأخرج الى العالم كلّه وأعيش وحيدة واحدة.

حين سمعت أمّي بالقرار، جنّ جنونها، وأخذت تكثّف من اتصالاتها بأخوتي، رائد ومحمد، لمنعي من الانتقال، لكن انشغالاتهما بأمورهم الشخصية كانت أهمّ بكثير من موضوع خروجي من المنزل، فقد كان رائد منشغلا بمشاكلة مع زوجته الأمريكية، وأخي محمد يصارع آلة الرأسمالية في الإمارات، ويسعى ليجعل لنفسه موطئ قدم هناك وعمل ثابت يعتاش منه. كانت مشاكل أخويّ في نظرم أكبر بكثير من قراري السخيف الذي سأعدل عنه لاحقا - كما قالوا لأمي مطمئنين - وهذا ما لم يحدث أبدا.

ساعدني رحيلي المتسرّع في إيجاد عمل في المدينة، بعيدا عن قريتنا التي لم تشبع يوما من الجهل والموت. ففي مطلع العام 2010 قدمت الى حلب الشهباء، مدينة السحر والجمال، مدينة الروائح الطيبة والناس الطيبة، ومن هناك خرجت إليكم بقصتي.

ليست هناك تعليقات:

  الروح الغاضبة للتنين