19‏/06‏/2020

الشروق .. ليس لأحد

الرواية غير المنتهية


الفصل الأول

الشروق الأول

8/8/2016



(١)

تلك الخيالات أراها الآن مجسدة أمام ناظري، كنت ألمحها سابقا فقط بطرف عيني راحلة أو قادمة، تسير بسرعة شديدة فتثير حيرتي، هل رأيت فعلا شيئا ما! أم أن عقلي يلعب لعبته البغيضة معي كلما هممت بأن أحلم! لكن منذ ذلك اليوم المشؤوم بدأت أراها ببطء شديد، دائما قادمة، من زاوية العين تخرج، تسير متمهلة حتى تصل كتفي، تجلس هناك، لا أعلم ماذا يعجبها في الجلوس على كتفي، لكنها تبقى هناك صامتة ثقيلة ولا ترحل، إلا عندما أبدأ بهزّ رأسي يمنة ويسرة، فأنفضها عن كتفي، وأتحللّ من خوفي الرابض على قدمي فيشلّهما.
ذلك اليوم، لم يكن عاديا أبدا، فقد شعرت بأن الشيطان يسير حرا في الشوارع، مصاحبا لزمرة من الجن والعفاريت، يبعث الجنون ويزرع الخوف بين الناس. لقد لمحته، بل رأيته فعلا، كان في السوق يشتري بعض الأنفس، ويبيع الأحلام، وكم أدهشني عدد الباعة وعدد المشترين.
كان الأفق مغمورا بالشفق، كان أقرب لونا من القلب منه الى الدم الذي يضخ منه أو إليه. والنجوم كانت تتراص على خجل حول القمر الذي أطلّ برأسه على استحياء شديد، فلم ير منه إلا جبهته.أظن أن السماء كانت قد تآمرت مع الشيطان، لتوحي لنا بهول ما يحدث. ولتنذرنا بأن ما خفي أعظم. رسالة مشبوهة بثّتها بين الخلق، فدبّ الرعب قبل الأوان. فترك كل خليل خلّه ورحل، وهربت الأم ببناتها تاركة الأولاد لمصيرهم. وإمام المسجد أقفل على نفسه باب الصومعة وبدأ يصلّي لإله يظنّ بأنه يعرفه جيدا، وأسقط في يد الرئيس، فبات ينظر من طرف الشبّاك كي يتأكد من خلو الشارع من المارة ومن الشياطين التي ظهرت. أما رجالات الأمن، فحدّث ولا حرج، لم نرهم سوى لمحة ساعة المغيب، يبدّلون ثيابهم الرسمية بأخرى عادية تقيهم شر المعرفة والمواجهة.
بدأ الليل يتسلّل في الحارات والأودية، فأظلمت الطرقات وتسارعت الخطوات وعلا الشهيق وتصادمت ضربات القلوب في كل زاوية وركن.


(٢)


لا يكفّ هذا النمل عن إزعاجي، ألمحه يسير بخطى ثابتة نحو المغسلة، بجانب حوض النعنع، خلف الإطار، في زاوية المنزل، وأحيانا يتجرأ فيدخل بين أصابع قدمي. يصيبني بتنميل لا أتخلص منه إلا بالقفز كالمجنونة وتحريك رأسي يمنة ويسرة. عندها فقط، يتوقف هذا الجنون، لكن النمل وحده لم يكن المشكلة الوحيدة التي أعاني منها، فهنالك النحل أيضا، يلحقني بمطاردة ساخنة كلما هممت بقطف وردة، ولا يستريح حتى يدخل أذني، وهنالك يبدأ الطنين، ويبدأ جنون من نوع آخر، لا أتخلص منه إلا بوضع ماء دافئ وملح فيهما كما علّمتني أمي، عندها فقط أستطيع أن أسمع صوتي نقيّا دون خدش.
تلك الحشرات وغيرها مما تعودت نوعا ما على رؤيتها دوما، لم أرها ذلك اليوم، ولم تدخل جسدي كعادتها المحمومة، تركتني أنعم بسلام، لربما ظنّت بأنني أحتاج أن أكون وحيدة في ذلك اليوم، دون إزعاج من نوع آخر، ودون ملهاة لا أحتاجها فعلا. آه لو تعلم، بأنني تمنيّتها في هذا اليوم تحديدا، آه لو تعلم!
ملهاة أخرى تمنيّتها ذلك اليوم، فنجان القهوة الصباحي وفيروز، نعم هذه العادة التي لازمتني طوال عشرين عاما، قاطعتها، بل خلعتها ذلك اليوم، لا أعلم لماذا! لكنني قررت فجأة بأن عليّ أن أغيّر من عاداتي، وأولى عاداتي السيئة - كما ظننت - فنجان القهوة. قالوا بأنه يضر بالصحة، وعليّ أن أكون صحيّة أكثر في اختياراتي. أن أبدأ بالعصير مثلا، أو الإفطار، وهذا ما كان! وليته لم يكن. آسفة سيدة فيروز فما كان يجب أن أصدق بأن هنالك ما هو أكثر صحة من سماع صوتك مع فنجان القهوة صباحا. سامحيني! فقد أسأت لنفسي ذلك اليوم، بل دمّرتها، آسفة،


هناك تعليقان (2):

م. عبد الغني سلامه يقول...


رائع جدا ما تكتبين، مذهل ومدهش حقا.. استمري حبيبتي، على موعد مع عمل غير عادي..

خلود بدار يقول...

شكرا يا حب .. أتمنى ذلك فعلا 😍💝🌹🌷

  الروح الغاضبة للتنين