9/8/2020
الشروق الثاني
(1)
قرية "الغزلان" تقع على بعد كيلومترين عن حدود المدينة، يقطنها أربعمائة وسبعون نسمة وتمتاز بوفرة المياه حيث يحدّها من الشمال نهر "الهادر" ومن الغرب نبعة "المجنونة" تتفجر وسط هذه القرية الوادعة. تحاذيها قرية "الضبعة" من الجنوب وضيعة "جورة التين" من الشرق ولا يفصل بينها وبين هذه القرى سوى أسماء ملاّك الأرض.
عند الخروج من المدينة الصاخبة تأخذني الطريق إليها في رحلة جمالية قل نظيرها، أو هكذا كنت أظن قبل وصولي النرويج. لمسافة كيلومتر ونصف تتعرج الطريق كحية رقطاء ممتدة، في شارع ضيق لا يزيد عرضه عن ثلاثة أمتار، إذا احتسبنا الرصيف على جانبه الأيمن. يظلل شجر الحور والصفصاف واللوز والجوز وأنواع أخرى امتداد الطريق، فيحميه من فضلات الطيور وأعين المسافرين في الطائرات. على الجانب الأيسر للطريق يمتد واد غير سحيق ولكنه ذو زرع، فإن توقفت على جانب الطريق وأرسلت البصر جيدا، فبإمكانك رؤية الخس والخيار والبازلاء والفول الأخضر وغيرها من المزروعات التي يبرع فيها مزارعوا هذه القرية الوادعة.
هي ليست وادعة تماما، فقد مر على قريتي العديد من الجرائم وغيرها من الآفات الاجتماعية التي لا بد أن تصيب أي تجمع سكاني يزيد عدده عن واحد وحيد. فقد قتل طفل في قريتنا لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره بسبب غزال. وسرق من أبي عمر صاحب الدكان الوحيد في القرية مبلغ من المال لغاية الآن لم يعرف قدره، فبالعض قال مئة وآخرون قالوا آلف، وأم علي تقسم أغلظ الأيمان بأنه تجاوز العشرة آلاف من الأوراق الخضراء.
كما قام أحد الشباب ويقال بأنه ابن مؤذن القرية بالاعتداء على "مجد"، الصبية ذات الخمسة عشر ربيعا، وأدى بها الى أن تحبل، ومن ثم تم قتلها على يد أخيها لغسل عار العائلة كما يدّعون. "مجد" كانت "مجنونة" القرية كما كان يحلو للجميع تسميتها إلا والدي، فقد كان يناديها غزالة، ودائما ما كان يطعمها من يده ما لذ وطاب من الحلوى. أذكر حين سمع بخبر وفاتها، بل قتلها، جن جنونه ودار يصرخ في أبناء القرية ويشتم ويلعن، سار على غير هدي لساعات طويلة والعرق يتفصّد من كل أنحاء جسده، والحرارة تأكله وأيضا الألم. كنت حينها لا أتجاوز التاسعة من عمري، لكنني لأول مرة في حياتي شهدت دموع والدي وجنونه.
أبي، تكاد صورتك تختفي من الذاكرة تماما، أصبحت باهتة وقاتمة، أستعين بكل الروائح والأغاني والكلمات، أستعين بالحديث مع أمي عنك ومع أخوتي. أنبش بأظافري في الصور القديمة، وفي عقلي، لكن الصورة تأبى إلا الرحيل، حتى في الحلم بت تأتيني طيفا أعرف بقلبي أنه طيفك، لكن دون ملامح، دون ألوان، دون صوت أو رائحة تعينني على التذكر، وعلى التمتع بهذه الأطياف والهالات.
أنظر الآن الى صورتك يوم عرسك، شابا يافعا ضحوكا، طويلا، شعر ناعم منساب على الجبهة العريضة، وعينان كعيني الثور، هكذا كانت تصفهم والدتي دائما، وكنت تضحك لها دوما وتعاكسها لتقول: وعناده أيضا.
نعم، كنت عنيدا جدا رغم طيبك الشديدة، رغم كل الحنان الذي يتفجر من مقلتيك وكفيك، كنت عنيدا وصلبا كصخر الصوان بل أكثر.
تتموضع مثل "شكري سرحان" في الصورة، لا أعلم لماذا؟ ولكن يبدو بأنه كان مثالا يحتذى به آنذاك. يدك أسفل ذقنك، قدمك على كرسي مرتفع، وتتكئ بكوعك على ركبتك المرفوعة. اعتذر يا حبيبي ولكن الصورة فعلا مضحكة، ومؤلمة في آن معا. اضحك لهذا التموضع العجيب لأخذ الصورة، وأبكي لأنني لا أذكر، هل هكذا كان شكلك فعلا يا أبي! هل هذا أنت الذي أعرف! لماذا تبهت صور من نحب هكذا! لماذا ترحل عنا حين نكون بأمس الحاجة لها! لماذا!